جنان منيمنة

جنان منيمنة

Barbour

dealingwiththepast

1974

لم تكن جنان تدرك في طفولتها ماهية الأصوات العنيفة التي تسمعها، كانت ترى الرعب في عيون أهلها والكبار المحيطين بها، إلا أنهم في الوقت نفسه كانوا يفتعلون الابتسامة واللعب معها لكي لا تخاف. هي المولودة قبل عام من الحرب الأهلية، عاشت صور الاشتباكات والدمار والهروب من البيت إلى “الملجأ” من قذيفة عابرة ورصاصة طائشة، تتذكر اليوم بشكل واضح مشاهد الحرب المحفورة في ذاكرتها.
تربت جنان في كنف عائلة بيروتية يمكن وصفها بالتقليدية، فوالدها لم يكن محبذي العمل السياسي، ولم ينضم للأحزاب، على الرغم من وجود كل الطرق المؤدية للانتماءات والانقسامات.
أعطى وقته لعائلته فقط، ولدت زوجته ابنتيه وهو قد تخطى عمر الخمسين، عاش مع عائلته الاكتفاء الذي يمنع عنهم التعرض ليوميات القتال القاسية، لكن الظروف الصعبة التي مرت بها جنان تؤكد أن الحرب كانت معششة بتفاصيل حياتهم. تتذكر الأنباء السيئة عن الموت المتواصل، والقتل المتنقل الذي طال معارف وأقرباء وغرباء، رغم كل الجو المحيط بطفولتها لتنسى الحرب، لكنها كانت تسمع تعابير قاسية مثل “ذبحته رصاصة” و”انقطعت يده” أو “مات بالانفجار”، تعابير ولدت في مخيلتها صور مخيفة لا تزال تعيش معها حتى الآن، زرعت فيها ما تسميه “الخوف المستدام”.
عاشت في منطقة بربور بالمنطقة الغربية لبيروت، جارهم زعيم واحدة من أقوى الميليشيات في الحرب، فتحولت المنطقة منذ عام 1984 إلى مربع أمني يصعب دخوله والخروج منه من دون تفتيش دقيق واستفسار من عناصر الميليشيات عن كل ذهاب وعودة إلى البيت. تحول عناصر الحواجز المنتشرة في المنطقة إلى “الأخ الأكبر” كما في رواية جورج أورويل “1984”، الذي يمكنه يتدخل بتفاصيل حياتك ويشاهد يومياتك من دون أي حق لك بالرفض أو حتى بالقبول.
في إحدى المرات رفضت جنان الخضوع للتفتيش ومنعت عناصر الميليشيات من فتح حقيبتها المدرسية، ولاذت بالفرار منهم ما استدعى مطاردتها و تهديدها بالسلاح. لاحقاً اكتشفت أن المنزل الأصفر القديم القريب لبيتها، والمحاط بأشجار قليلة، يحتوي غرفاً تقطنها الميليشيات وتستعمل بعضها للتعذيب، فكانت تسمع من غرفتها أصوات تعذيب وصراخ الضحايا وهم يستجدون رحمة جلادهم.
رعب آخر عاشته جنان مع عائلتها، حين خرج أحد أعمامها لجلب بضائع من طرابلس، وهو الذي يمتهن التجارة، واختفى منذ ذلك اليوم ولم يعد حتى الساعة. فاجعة خسارة عمها تتجاوز مجرد اختفائه أو موته كون العائلة بقيت لسنوات عديدة تتأمل استرجاعه وهو أمر لم يحصل، ما دفعهم للقبول بواقع الأمر وإعلان وفاته.
خلال القصف العنيف أو الاشتباكات بين الميليشيات المتواجدة في منطقة سكنها، كان الفرار المتاح هو إلى منزل شقيقة والدتها في منطقة فردان، فالوضع أهدأ، ولكن أسوأ الأيام كانت في الفرار إلى الملاجئ، لما يشكله من انتهاك لخصوصية الفتيات، حيث تكون مجبرة على تقاسم الحيز العام، أي “الملجأ المستودع” مع عشرات الأشخاص والكثير من الحشرات.
بعد الحرب اعتقدت جنان أنه محصنة من الآثار النفسية للحرب، ولكنها في لحظة واحدة انهارت بالكامل مع دوي الانفجار الذي أدى إلى اغتيال رئيس مجلس الوزراء السابق رفيق الحريري، انهارت أعصابها وبدأت تصرخ خائفة من أن يعود لبنان الى الحرب والدمار، لتنتبه وقتها أنها لا تزال تعيش الحرب.
بالنسبة لها، فإن الهوس لدى بعض اللبنانيين بأيام الحرب موضوع غير صحي، والسردية التي تقول بأن “الأوضاع المادية لدى اللبنانيين خلال الحرب كانت أفضل” تعتبرها ضرب من الجنون. تقول إن الحرب هي الدم والقتل والدمار ولا يمكن للمرء أن يتمنى ذلك تحت أي ظرف إنساني. الحرب سرقت من جنان طفولتها ومنعت عنها الحياة اللطيفة وهذا شيء لا يجب أن يعيشه أي جيل مجدداً.

تسجيل دخول

The stories and interviews and other information mentioned in this platform do not necessarily reflect the views of the UNDP and the donor. The content of the stories is the sole responsibility of the interviewees.

القصص والمقابلات والمعلومات الأخرى المذكورة في هذه المنصة لا تعكس بالضرورة وجهات نظر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والجهة المانحة. محتوى القصص هي مسؤولية الأشخاص الذين تمت مقابلتهم.